الرزرازي: التهديد الإرهابي مازال قائما.. والمغرب رائد في مكافحة التطرف

الرزرازي: التهديد الإرهابي مازال قائما.. والمغرب رائد في مكافحة التطرف

في 16 ماي 2003، أي قبل عقدين من الزمن، عاش المغرب أحد أحلك أيامه بعدما هزت أحداث إرهابية مدينة الدار البيضاء، القلب الاقتصادي النابض للمملكة، محدثة زلزالا من التغييرات في البلاد جعلت المملكة تتفطن لخطورة الوضع وتبادر بشكل سريع لاستدراك ما يمكن استدراكه في مواجهة الخطر الذي بات يؤرق العالم ويقض مضجع كثير من الدول والشعوب الآمنة.

في هذا الحوار، تناقش جريدة هسبريس الإلكترونية موضوع الإرهاب وحرب المغرب المفتوحة عليه مع الدكتور المصطفى الرزرازي، باحث أول بمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد رئيس المرصد المغربي حول التطرف والعنف أستاذ تدبير المخاطر بكلية الحكامة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية بجامعة محمد السادس متعددة الاختصاصات.

يسترجع الخبير بالتطرف والعنف شريط البداية والأحداث التي أطلقت العنان لتجربة مغربية رائدة في مكافحة الظاهرة الإرهابية ومحاصرتها في محيط إقليمي ودولي مضطرب، نجت المملكة من خلاله في تقديم صورة ونموذج يمكن النسج على منواله في مقاربة موضوع الإرهاب وفق رؤية شاملة مكنت من تحييد الخطر الإرهابي وتجنيب البلاد وشركائها الكثير من حمامات الدم التي كانت تتربص بهما.

وفي ما يلي نص الحوار كاملا:

بعد مرور عشرين سنة على أحداث 16 ماي الإرهابية بالدار البيضاء، كيف تستحضر بعين الخبير هذه الذكرى الأليمة وتأثيرها على البلاد؟

لحظتان لاستحضار أحداث 16 ماي 2003؛ الأولى من زاوية نظري كمغربي، اهتزت لها مشاعرنا، وكانت صادمة وفارقة للحظتين في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، إذ خبر المغاربة قبح التطرف العنيف، ولكن أيضا خبرنا أننا لسنا بمنأى عن هذا الخطر الذي كنا نتابع وقائعه بعيدا عنا. واللحظة الثانية هي من زاوية الباحث الذي كان يتابع ما حدث من قارة تبعد عشرات آلاف الكيلومترات عن المغرب، ولكن دعني أقول إن الانشغال كان شاملا لتحولات كبرى تحدث في العالم منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكانت مؤشرات تنامي التهديدات الإرهابية تعلن عن ولادة مدخل جديد لعدم الاستقرار في العالم.

أذكر أن عام 2003 كان مشتعلا بالهجمات الإرهابية بمختلف قارات العالم، بلغ عددها حوالي أربعين هجوما وذهب ضحيتها حوالي 900 قتيل وأكثر من 4200 جريح من دول مثل روسيا والهند وإندونيسيا وباكستان والعراق والسعودية وصربيا وتركيا، وطبعا الدار البيضاء.

جدير بالذكر أن أحداث البيضاء جاءت أيضا ضمن أجواء متوترة دوليا تجسدت في غزو العراق في 19 مارس 2003 من طرف قوات التحالف الدولي، ثم انتهت المرحلة المبكرة من هذه الحرب التي كان يسميها الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش “العمليات القتالية الكبرى”، رسميا، في الأول من شهر ماي 2003، أي قبل حوالي أسبوعين من أحداث الدار البيضاء.

إذا كان تعاطي السلطات المغربية مع الأحداث متعدد الأبعاد: بعد إنساني بسبب سقوط ضحايا، بعد أمني أنذر بغياب فراغات أمنية أو حالة تراخٍ واستكانة لحالة الأمن والاستقرار، كان الدرس قويا من أجل إعادة إصلاح المنظومة الأمنية والقضائية المغربية، وتعزيز الجاهزية للتعاطي مع الأسوأ.

ولم تتوقف حالة الاستنفار ضد كل محاولة إرهابية أخرى، خاصة أن عام 2004 لم يخل بدوره من تردي الأوضاع بالعراق وارتفاع منسوب العمليات الإرهابية، كانت أكثرها دلالة للمغرب أحداث الخبر بالسعودية وهجوم مدريد الذي خلف 191 قتيلا وحوالي 2050 جريحا.

الأحداث كانت أليمة وموجعة غيرت من ملامح الدار البيضاء، لكنها كانت إنذارا للنهوض بإصلاح الأعطاب، سواء تعلق الامر بإصلاح الأجهزة الأمنية، أو بإصدار القانون رقم 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب، أو بإطلاق حملة محاربة السكن العشوائي، وإطلاق مبادرة التنمية البشرية، ثم في مرحلة لاحقة إعادة هيكلة الحقل الديني وفق مقاربة تتسم بالوسطية والعقلانية في آن واحد.

خلال عقدين من الزمن أطلق المغرب العديد من المبادرات والاستراتيجيات لمكافحة ومواجهة الخطر الإرهابي، ما تقييمكم للمنجز حتى الآن؟

خلال عقدين من الزمن قطع المغرب أشواطا مهمة في تحصين نفسه ضد التهديدات الإرهابية؛ فبعد أحداث 16 ماي، كان أول إجراء احترازي هو ملء الفراغ القانوني، وإصدار قانون الإرهاب 03-03 بعد أسبوعين فقط من الأحداث. ومنذ ذلك الحين بدأ المغرب يطلق أوراشه الإصلاحية الكبرى، خاصة في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية، كان في مقدمتها مبادرة التنمية البشرية، هذا الورش الملكي الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس بتاريخ 18 ماي 2005، يهدف إلى محاربة الهشاشة السوسيو-اقتصادية وتسهيل الإدماج الاقتصادي للفئات الفقيرة والمعوزة.

ولينتقل من الإجراءات الاحترازية الطارئة، المرتبطة بتدبير أزمة أحداث 16 ماي، إلى إطلاق الاستراتيجيات الكبرى، شرع المغرب في إصلاح بنيات الأمن الوطني وهياكله، بما يشمل سلك الشرطة ومختلف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الوطنية. وبشكل متوازٍ أطلق المغرب خلال الفترة ما بين 2003-2007 إصلاحات كبرى أخرى، كإصلاح الحقل الديني الذي وضع جلالة الملك إطاره العام في خطاب العرش لعام 2003، والذي تمثل في إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتقوية دور المجالس العلمية، وتأطير دور العبادة، وخلق آليات جديدة لتأطير الفاعلين الدينيين، وتعزيز المرجعية الوسطية المبنية على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي. واستمرت جهود إصلاح المنظومة الدينية بمبادرات فاعلة ومهمة، من أهمها تأسيس الرابطة المحمدية للعلماء التي أنيط بها دور أشبه ما يكون بمركز التفكير في الشأن الديني، وبناء الاستراتيجيات الدينية الكفيلة بالتصدي للخطاب المتطرف، ثم إحداث مدرسة لتكوين المرشدين والمرشدات، وإحداث منصات إعلامية دينية تقوم بنشر الفهم الوسطي للدين وتتصدى للتفسيرات المضللة.

في مرحلة متقدمة، أقدم المغرب على إنجازات أخرى، من قبيل الارتقاء بالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان إلى مجلس وطني لحقوق الإنسان، ثم إقراره كمؤسسة دستورية، ثم إحداث المكتب المركزي للأبحاث القضائية الذي أصبح آلية إنفاذ القانون للأجهزة الاستخباراتية المغربية، وفق مقاربة تتأسس على الاستباقية والحكامة القانونية والحقوقية في ملاحقة التهديدات الإرهابية وجرائم الاتجار بالبشر وتجارة المخدرات، وغيرها من الجرائم الكبرى.

في الواقع، لم تقتصر جهود المغرب على ملاحقة التهديدات وتحييدها، ولكن شملت الإصلاحات أيضا القطاع السجني خاصة بإطلاق البرنامج الوطني “مصالحة” عام 2017.

ماذا عن الأدوار الإقليمية والدولية للمغرب في المعركة؟

قام المغرب بأدوار دولية رائدة في ترسيخ قيم التعاون الدولي الأمني، سواء من خلال قوته الاقتراحية داخل الأمم المتحدة أو داخل المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب، أو من خلال مجموعة التركيز الإفريقية التي يرأسها اليوم إلى جانب نيجيريا وإيطاليا.

في تقييم عام، أظن أن المغرب دخل اليوم في مكافحته للإرهاب والتطرف العنيف محطة جديدة في تعاطيه مع هذه التهديدات، مقاربة يمكن أن نسميها بالجيل الخامس للمقاربة المغربية في مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، تتحقق فيها أفقيا شمولية التعاطي الاجتماعي والاقتصادي والأمني والاستخباراتي والقضائي والإصلاحي والتربوي والإعلامي، وتتماسك عموديا بالمزج بين التفتيت والاستباق والتوقع والاحتواء والتمنيع، مع المزج بين ثلاثية: الحكامة، المعرفة والخبرة البشرية والتكنولوجية.

بين الفينة والأخرى يعلن عن تفكيك خلايا إرهابية وإحباط مخططات تخريبية من قبل الأجهزة الأمنية، إلى أي حد نجح المغرب في تحييد الخطر الإرهابي المتربص بالمملكة؟

عرفت الحركات المحسوبة على التطرف العنيف تحولات انتقلت فيها من جيل يعتقد أنه حامل لمشروع حضاري قادر على توحيد الأمة الإسلامية جمعاء، إلى جيل يؤمن بالمشروع الانقلابي ضد الدولة القطرية، ويستهدف قلب الأنظمة عن طريق تجييش الشارع العام أو عن طريق الانقلابات العسكرية والاغتيالات كما حدث مع أنور السادات. ثم جاءت مرحلة عولمة الإرهاب مع “القاعدة” في نسختيها الأولى والثانية، ثم مع “تنظيم الدولة” الذي رفع شعار معركة الاستخلاف والتمكين. وهذا يعني أن الموجة الجديدة التي تزامنت مع تفكك مفهوم التنظيم القطري في الفكر الجهادي الهادف إلى قلب الأنظمة، مرورا بمفهوم التنظيم العالمي كما نظر له عبد الله عزام وبعده الظواهري وأسامة بن لادن، شهد على إثرها العالم اليوم جيلا جديدا من النشاط الجهادي، حاول العودة إلى مفهوم الخلافة الواحدة، المبنية على آليتي التمكين والاستخلاف المركزيين، مع بناء شبكة “الإمارات”، كلما توفق أعضاء التنظيم أو الموالون له في تدبير مجال جغرافي وبسط نفوذهم عليه بمختلف بقاع العالم الإسلامي.

لكن مع تكرار الضربات العسكرية المتوالية على تنظيم الدولة (المعروف إعلاميا بـ”داعش”)، يطرح اليوم المحللون والمراقبون سيناريوهات متعددة بخصوص مصير المقاتلين الأجانب بسوريا والعراق، بين من يتوقع عودتهم، ومن يخشى إعادة انتشارهم بمناطق التوتر المجاورة مثل ليبيا ومالي وتشاد واليمن، ومناطق توتر جديدة بجنوب شرق آسيا وإفريقيا.

داخل هذا السياق العام، شهد المغرب حوادث إرهابية متفرقة خلال الفترة ما بين 2003-2011، حدثت داخل مدن الدار البيضاء ومكناس عامي 2005 و2007 بمراكش عام 2011 ثم بإملشيل عام 2018. لكن الأجهزة الأمنية المغربية عملت منذ وقت مبكر على ملاحقة التهديدات الإرهابية، وتفتيتها منذ سبعينات القرن الماضي ضد الشبيبة الإسلامية، وحركة المجاهدين بالمغرب، وغيرها من التنظيمات التي كانت تحمل فكرا انقلابيا، وكانت تؤمن بالتغيير بالعنف وحمل السلاح. ولذلك نشهد اليوم ظاهرة متميزة في المغرب، هي أن أغلب التهديدات الإرهابية تأتي من خلايا، ومجموعات صغيرة، غالبا ما تعلن ولاءها لـ”داعش” أو “القاعدة” بشكل رمزي ودون وجود علاقات تنظيمية عضوية بالتنظيم الأصلي. وبالقدر الذي تكون فيه مخاطر الخلايا أقل عتادا وتنظيما، بقدر ما تكون عمليات رصدها وتتبعها وتفكيكها أكثر تعقيدا من الناحية الاستخباراتية.

صحيح أن وتيرة التهديد قد تقلصت اليوم مع ارتفاع اليقظة الأمنية، وهو ما تبرهن عليه إنجازات أجهزة الأمن التي فككت مئات الخلايا التي كانت تستعد لتنفيذ ضربات إرهابية خطيرة خلال السنوات العشر الأخيرة، لكنها تهديدات تظل قائمة مع ذلك من حيث وجود إمكانيات للاختراق ومحاولات مبطنة لتحقيق أضرار اقتصادية أو بشرية. وستستمر هذه التهديدات من خلال الخلايا الإرهابية المحسوبة على “تنظيم الدولة”، أو من خلال خلايا قد تظهر بين الفينة والأخرى تكون محسوبة على “القاعدة” أو على تنظيمات جهادية صغيرة محلية أو إقليمية.

أصبح المغرب لاعبا رئيسيا في محاربة الإرهاب في الساحة الإقليمية والدولية. في رأيكم، كيف حقق ذلك؟

يأتي هذا التميز وهذه الريادة من أمرين؛ الأول هو العقيدة الأمنية للاستراتيجية المغربية التي آمن بها المغرب، وهي أن المعركة ضد الإرهاب معركة جماعية وشمولية، وهو ما جعله رائدا في التعاون الأمني مع جيرانه وشركائه وحلفائه من مختلف القارات، سواء تعلق الأمر بالشق الأمني والاستخباراتي والقضائي، أو بقوته الاقتراحية واحتضان مبادرات عدة، سواء داخل المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب، أو داخل التحالف الدولي لمكافحة “داعش”، أو على مستوى وزراء الداخلية العرب، أو في إطار شراكاته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع الاتحاد الأوروبي، أو في إطار مجموعة التركيز الخاصة بإفريقيا “أفريكا فوكوس غروب”، التابعة للتحالف الدولي ضد تنظيم ”داعش”، التي يرأسها اليوم بشكل مشترك إلى جانب النيجر والولايات المتحدة وإيطاليا منذ 2022.

ولعب دورا رائدا في صياغة عدد من الممارسات الفضلى، في مقدمتها مذكرة لاهاي مراكش، ثم مذكرة الرباط، واليوم تأتي المبادرة الجديدة التي تعنى بمسألة التربية، والتي تم الإعلان عنها بمناسبة انعقاد أعمال الدورة الـ21 للجنة التنسيقية للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب، تحت شعار “التربية من أجل الوقاية ومكافحة التطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب”.

التنسيق الأمني للمغرب مع العديد من الدول الأوروبية ساهم في تجنيبها الكثير من العمليات الإرهابية..

التنسيق الأمني للمغرب ينبع من التزام المملكة بمكافحة التهديد الإرهابي وفق مقاربة التعاون العملياتي والاستراتيجي مع الشركاء العرب والأفارقة والغربيين والآسيويين، وهي المقاربة التي كان لها الفضل في فشل العديد من المشاريع الخبيثة التي تؤثر على الأمن الإقليمي والدولي وكانت تهز عواصم عدة.

قبل هجمات 11 سبتمبر 2001 بوقت طويل، نبهت أجهزة الأمن المغربية مجتمع المخابرات إلى الاهتمام الذي أبدته “القاعدة” بمنطقة الساحل كمساحة عملياتية في منظورها، التي ارتُكبت فيها الهجمات الإرهابية في عام 1998 ضد السفارتين الأمريكيتين في نيروبي (كينيا) ودار السلام (تنزانيا).

وبالمثل، سمح تفكيك الخلايا المنتسبة لـ”الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة” في المملكة، في عام 2004، لشركاء أوروبيين بتفكيك أربع خلايا إرهابية في بلدانهم (فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا)، وكانت مشاركة الأجهزة الأمنية المغربية في التحقيقات في اعتداءات 11/03/2004 في مدريد حاسما في تحديد موقع بمزرعة في ضواحي مدريد تم فيه صنع العبوات الناسفة، فضلا عن مخبأ تحصن فيه الإرهابيون قبل أن يقتلوا أنفسهم.

ولعل التعاون المستمر من قبل أجهزة الأمن المغربية لدرء التهديد الإرهابي ذي الطبيعة العابرة للحدود، قد جعل من الممكن وقف وتحييد تنفيذ المشاريع المزعزعة للاستقرار، ولا سيما في أوروبا (فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والدنمارك)، بما في ذلك قضية راعي اعتداءات باريس البلجيكي المغربي عبد الحميد أباعود (الإطار العملياتي للجنة العمليات الخارجية لـ”داعش”)، بعد أن أشرف مساء يوم 13/11/2015 على تنفيذ سلسلة من الهجمات استهدفت ست مناطق بالعاصمة الفرنسية، قبل إطلاق النار عليه بتاريخ 18/11/2015 في مخبأ بسان دوني في فرنسا. وتم تأكيد فعالية هذا التعاون من خلال التفكيك المشترك، منذ عام 2014، مع الشركاء الإسبان، لعشرات الشبكات السورية العراقية التي تحمل فرقًا إرهابية كانت تستهدف المملكتين. ففي أعقاب الهجوم الإرهابي المزدوج الذي تبنته “داعش”، والذي وقع يومي 17 و18/8/2017 في منطقة كتالونيا، بدأ التنسيق الفوري من قبل الأجهزة الأمنية المغربية مع الشركاء الإسبان لتحديد منفذيها الذين أصبحوا متطرفين في إسبانيا أو استقروا بها منذ الصغر.

وكانت ديناميكية التعاون مع الشركاء الفرنسيين، ولا سيما في توجيه الكتائب الإرهابية العاملة في منطقة الساحل، ذات أهمية كبيرة لتحييد الناشط الإرهابي مغربي الأصل “ع. م” (كبير المسؤولين التنفيذيين في جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، بعد أن تم إطلاق النار عليه ليلة 08 إلى 09/10/2019 من قبل القوات المسلحة الفرنسية في مالي)، وكذلك اعتقال الكادر المغربي لفرع “داشيان” في مايو 2020، في الساحل “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى” م. م” أثناء عملية عسكرية في وادي “تيليمسي” في مالي.

نفس الالتزام بمكافحة الإرهاب على المستوى الدولي من طرف المغرب استقبلته السلطات السريلانكية، التي استطاعت بمساعدة أجهزة الأمن المغربية، بعد المجزرة التي استهدفت في 21/04/2019 الكنائس والفنادق في سريلانكا، الحصول على المعلومات الأساسية التي سمحت بتحديد هوية منفذي هذه الهجمات الإرهابية قبل وقت طويل من إعلان تبنيها من قبل “داعش”.

الأمر نفسه نراه في التنسيق الأمني والاستخباراتي المتطور مع الولايات المتحدة الأمريكية.

الإرهاب يطور أدوات وآليات اشتغاله بشكل مستمر. كيف تقيم مستوى مواكبة الأجهزة الأمنية المغربية لهذه المتغيرات؟

تستمر التهديدات الإرهابية من خلال تنفيذ الهجمات والتفجيرات وعمليات الخطف من قبل الجماعات الإرهابية، لكن يمكن القول إن الخريطة العالمية لانتشار التطرف العنيف تعرف اليوم تحولات جوهرية، خاصة بعد إعلان هزيمة “تنظيم الدولة” بعد افتقاده لعنصر الأرض بسوريا وتفتت هياكله، لكن في المقابل هناك محاولات لإعادة تشكله وإعادة انتشاره بالقارة الإفريقية وبآسيا الجنوبية والوسطى.

ومن أهم خصائص المرحلة الجديدة أيضا، اتساع وسائل وقنوات التطرف التي لم تعد تنظيمية بالمعنى التقليدي ولكنها باتت تشمل استعمال تكنولوجيات متطورة، سواء في تطوير وسائل التواصل الاجتماعي، أو على المستوى الميداني مثل استعمال الطائرات بدون طيار أو السعي نحو استغلال سوق العملات النقدية الافتراضية، أو من خلال الارتقاء بأدائها إلى منافسة أجهزة إنفاذ القانون في استعمال الذكاء الاصطناعي لتنفيذ استراتيجياتها.

على مستوى آخر، يشهد العالم اليوم ارتفاع منسوب التطرف العنيف في الغرب أيضا، سواء بلمسات دينية متطرفة، أو بدواعٍ أيديولوجيات يمينية متطرفة. ولعل من أهم مظاهرها ارتفاع عدد العمليات الإرهابية غير معروفة جهتها المنفذة.

وبشكل عام، يمكننا أيضا القول بأن الأعداد الكبيرة من العمليات غير المتبناة من أي تنظيم تعزز فرضية حدوث تغيرات في الأداء العملياتي للإرهاب، من خلال المجموعات الصغيرة أو العمليات الفردية.

ماذا على المستوى الاستراتيجي؟

على المستوى الاستراتيجي، هناك أربعة تخوفات أساسية تهيمن على المشهد الإرهابي العالمي:

الأول، تنامي التهديدات الإرهابية بالقارة الإفريقية، لاسيما بمنطقة الساحل وإفريقيا الغربية، خاصة في ظل التقلبات السياسية التي تعيشها المنطقة، خصوصا مالي وبوركينا فاصو والمناطق المحاورة لهما، وكذا انسحاب القوات الفرنسية بشكل مباغت كانت له بكل تأكيد تداعيات على نشاطات التنظيمات المسلحة، وكذا على أداء قوات مكافحة الإرهاب بدول الساحل وغرب إفريقيا.

الثاني، تنامي تهديد إمارة خراسان التابعة لـ”داعش” بجنوب آسيا، وتحديدا أفغانستان وباكستان، خاصة بعد انسحاب القوات الأمريكية، وعودة طالبان، واستمرار التقلبات السياسية بباكستان.

التخوف الثالث، تزايد وتيرة الارتباط بين الإرهاب والحركات الانفصالية.

الرابع، تزايد إرهاب اليمين واليسار المتطرفين، حيث بلغ عدد الهجمات بالدول الغربية عام 2022 حوالي 15 هجوما، تتوزع على دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد وبلجيكا والمملكة المتحدة، ودول أخرى.

المغرب يواكب بقوة التطورات النوعية التي يعرفها الإرهاب، ونرى ذلك واضحا في مبادرات خلق المختبرات العلمية للشرطة، واقتناء أحدث تكنولوجيا الرصد والمراقبة داخل الموانئ والمطارات وعلى الحدود، ثم تشبيب الكفاءات واستقطاب الخبرة العلمية إلى جانب الخبرة الميدانية. أضف إلى هذا تشجيع الاهتمام البحثي بقضايا الأمن، وكذا تشجيع فعاليات المجتمع المدني المختصة في هذه القضايا.

بخصوص ملف المعتقلين على خلفية قضايا الإرهاب والعائدين من بؤر التوتر، كيف تقيم تدبير السلطات لهذا الملف؟ وكيف تستفيد فئة سجناء الإرهاب من البرامج التأهيلية داخل السجون؟

نهج المغرب في مقاربته لتدبير العائدين من مناطق التوتر مقاربة تتميز بالحكامة الأمنية والقضائية مع احترام الممارسات الدولية الفضلى، بما فيها قرارات مجلس الأمن. وهي مقاربة تعتمد على التحقيق الاستخباراتي والقضائي الدقيقين الهادفين إلى التمييز بين الحالات التي تم تورطها في عمليات يجرمها القانون الجنائي المغربي، وحالات التغرير كما هو وضع النساء اللواتي لم يسافرن إلى مناطق التوتر من أجل القتال وإنما لمرافقة أزواجهن. ثم التعاطي مع المرحلين من سجون ومخيمات أجنبية بمناطق التوتر.

وضمن الجهود التي يبذلها المغرب في عملية التأهيل وإعادة الإدماج، أطلقت المندوبية العامة لإدارة السجون برنامجا لإعادة التأهيل والمصاحبة داخل السجون مخصصا لفائدة النزلاء المتابعين في قضايا الإرهاب والتطرف العنيف “مصالحة”، وهو برنامج يتأسس على مقاربة تكاملية، تشمل التكوين في العلوم الشرعية والدينية، انطلاقا من منهجية تتأسس على جدلية تفكيك خطاب التطرف والكراهية، ثم إعادة تأهيل النزلاء المشاركين من أجل اكتساب مهارات النقد والاستدلال الشرعيين انطلاقا من العقيدة الأشعرية المالكية الوسطية. كما يشمل البرنامج دورات تكوينية في المجالين الحقوقي والقانوني، وحصصا تكوينية وتواصلية حول القوانين الدولية والمحلية المنظمة للجرائم الإرهابية. إضافة إلى ذلك، يخص جزء هام من البرنامج التكوين الخاص بتعزيز المهارات الاقتصادية والاجتماعية للسجناء، من خلال ورشات تكوينية وتأهيلية تهدف إلى تعزيز كفاءاتهم المعرفية والتقنية في تدبير الاندماج السوسيو-اقتصادي وتنمية خبراتهم في الكسب الشريف من خلال امتلاك مفاتيح التدبير المقاولاتي. هذا طبعا علاوة على مصاحبة نفسية متخصصة طيلة فقرات البرنامج.

كما تتميز خصوصية هذا البرنامج بهندسته التي صيغت بشكل دقيق يستجيب لخصوصيات هذه الفئة الخاصة من النزلاء، وللخصوصيات المرتبطة بالمناخ الثقافي والفكري والديني والاجتماعي المغربي، إضافة إلى كونه برنامجا ينضبط بكل المقررات الدولية والممارسات الفضلى، بما يشمل مذكرة روما حول إعادة إدماج السجناء المتابعين في ملفات التطرف العنيف والإرهاب، التي تعتبر أحد المرجعيات الأساسية بما تحتوي عليه من توصيات توجيهية تؤسس للممارسات الجيدة لإعادة تأهيل المتطرّفين العنيفين وإعادة دمجهم بالمجتمعات. تضاف إليها مذكرة مراكش-لاهاي، ثم مذكرة الرباط التي تدعو إلى أن تعمل أنظمة المؤسسات السجنية على منع أية أعمال تطرفية أخرى من السجناء وتمنع الأنشطة الإرهابية التي يتم توجيهها أو دعمها من داخل منظومة السجن، بالإضافة إلى السعي لاجتثاث التطرف وإعادة دمج السجناء في المجتمع حيثما كان ذلك ممكناً، وبالتالي الحد من حالات العودة إلى الإجرام.

ولعل أهمية هذا البرنامج جاءت بوعي من السلطات الأمنية المغربية بمخاطر العود بعد إنهاء العقوبة السجنية. والدليل على ذلك، فمن مجموع 1600 تقريبا من الشباب المغاربة الذين التحقوا بسوريا والعراق منذ 2013، نجد حوالي 270 كانوا سجناء سابقين على خلفية قضايا الإرهاب، في حين يفخر المغرب اليوم بأن هناك شبه انعدام لظاهرة العود منذ إطلاق هذا البرنامج التأهيلي.

أترك تعليقا

أحدث أقدم