إدريس الشرايبي.. رواياتٌ بأرواح قَلِقة تنتقد القيم البائدة في المجتمع المغربي

إدريس الشرايبي.. رواياتٌ بأرواح قَلِقة تنتقد القيم البائدة في المجتمع المغربي

L’homme naît, vit ce qu’il vit et puis meurt. Il faut être prêt pour la mort comme pour la naissance.
(Une enquête au pays)

1
بين أن نكون “مع” إدريس الشرايبي أو “ضده”، فإننا لا نختلف حول أهمية ذخيرته الأدبية والإبداعية في علاقتها بالسياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي طبع مغرب سنوات الخمسينيات من القرن الماضي وما تلاها. “مع” إدريس الشرايبي أو “ضده” موقفان يكتسبان معناهما من أسئلة الكتابة أولا، والتصور الذي يحيل على الحاجة إلى الأدب ووظيفته في لحظة كان فيها (أي الأدب) يُرسي أسس شكل تعبيري حديث يروم تجاوز “أدب كولونيالي” سابق عنه في الوجود، وفي الآن ذاته بصْم التجربة الأدبية بمعايير الخصوصية والتميز والفرادة، في ظل ما هو رائج من تصورات ومقاييس.

حين اختار إدريس الشرايبي المغامرة الأدبية عوضا عن المغامرة العلمية، الكيميائية تحديدا، فلاقتناعه المبكر بقيمة التخييل والإبداع في إنتاج قيم جديدة يتطلبها المجتمع المغربي آنئذ، وكذا انتقاد البائد منها والسائد بحكم سطوة الأسلاف والتقاليد.

حين اختار الشرايبي كتابة الرواية، كان مدار الإبداع الروائي السائد قبله، أو المعاصر له، مُشبعا بنمط “الرواية الكولونيالية” و”الرواية الإثنوغرافية”؛ وقد بدت الرواية الأولى عاجزة عن الاقتران مع موضوعها وتمثله والتفكير فيه، هي أدب لا يمكنه أن يتوفر إلا على لغة مُشوهة (مبتورة) لا تترجم فقط فشل المجتمع الذي شهد ميلادها، بل أيضا وأساسا تترجم فشله الخاص. بينما كان نمط الرواية الإثنوغرافية يتطابق على المستوى السياسي مع مرحلة التوسع الإمبريالي، وعلى المستوى العلمي بتطور العلوم الاجتماعية، وخاصة الإثنوغرافيا بوصفها دراسة ثقافات العالم المُسْتَعمَر والمجتمعات العتيقة؛ في هذا الظرف التاريخي والثقافي اختار إدريس الشرايبي، إذن، بوعي أدبي يقظ مسار كتابة روائية موسومة بالرفض والتوتر، ومشبعة بروح انتقادية منذ روايته الرائدة “الماضي البسيط”. أربعة أهواء كانت تشغل باله آنئذ:

الحاجة إلى الحب، التعطش إلى معرفة صافية ومباشرة، الرغبة في الحرية بالنسبة لذاته وللآخرين، وأخيرا مشاركة الآخر في ألمه. ولذلك، كان التمرد الذي يغمره مُوَجها ضد الكُل: ضد الحماية، والظلم الاجتماعي، وضد الجمود السياسي والثقافي والاجتماعي.

لم يكن إدريس الشرايبي منشغلا بالتنظير لكتابته؛ ولم يكن من المتحمسين لكتابة الشهادات الأدبية.

لذلك، تبقى نصوصه المجال الأدبي الأوحد لاستخلاص الرؤية الإبداعية التي تضبط تصوره للكتابة، وهي رؤية وجدتُها متلازمة مع عنصرين أساسيين: عنصر التأمل النقدي لما يشرط الوضع الوجودي والوجداني للأنا بما هو حصيلة لحظة تاريخية وثقافية عامة، وعنصر العلاقات الاجتماعية التي يمكن رصدها خارج أطر التخييل ويمكن تأملها أيضا من غير الارتهان إلى كتابة الاعتراف أو السيرة الذاتية المباشرة.

ثمة نوع من التوتر والقلق (بقصدية عنده وماكرة من قبله) طبع الرؤية الإبداعية لإدريس الشرايبي نجد بعض مظاهرها في الأسلوب واللغة وتشخيص عوالم الحكاية. توتر وقلق مصحوبان بقيمة التمرد الممتلئ بروح التجريب والمغامرة، وعدم الوقوف عند عتبة اليقين في الحياة والمجتمع. هنا، تكمن الموهبة الحقيقية للشرايبي، ومن هذه الرؤية الإبداعية المركبة تستقي الرواية عنده هويتها.

2
لكل رواية من روايات إدريس الشرايبي تصور محدد ووضع مُؤطر. رواياته لا تولد من فراغ، إنها حصيلة منطق فكري منبثق مما هو ضامر أو مُتفسخ أو ضاغط من مفارقات واقع، وإنسان، وتاريخ، ومرحلة.

ومن غير أن يعترف الشرايبي بأن الكتابة شكلت بالنسبة إليه منعطفا حاسما في حياته، فإننا نستخلص من عالمه الحكائي تطلعا (بل أكاد أقول انتصارا) إلى العديد من الأحاسيس والمواقف والرغبات التي تجهر بها شخصياته الروائية، بخطاب ظاهر حينا ومضمر حينا آخر، إفصاحا عن حالة، وإدانة لمسكوت عنه. من هنا، قوة العبارة عند الشرايبي، وعنف المتخيل لديه.

هذا وصفٌ للكتابة لا حُكم قيمة، وهو لا يعني عندي أنها كتابة خالية من الوشي والأدبية لمجرد تعلقها بالفضح والجرأة؛ بل إن بلاغتها كامنة في تخفيف النص (والحكاية) من المجاز والرمز، وتوقه (ها) إلى التعبير المباشر بفطنة العارف والمُجرب والمُنصت لنبض الواقع ومشاعر النفوس.

لذلك، يحتاج الكاتب إلى قدْر غير يسير من الشجاعة الأدبية والفكرية وبُعْد النظر والخيال لتيْنع نصوصه برؤية إبداعية خاصة ونوعية، لعلها أعز ما يملك الكاتب في الحياة وبعد الممات، يستمدها من نسغ الحياة ويعيدها إليها ممزوجة بالوهم والحلم والذكرى والدهشة والعتاب والكلام اليومي والشجن والموت المُسبق، والدمعة التي تسيحُ على الخد وحضن الوالدة. تأكيدا لهذا الأمر، لنقرأ هذه الشرايبيات:

من “أم الربيع” (ص 139):

“نحتفظ في منازلنا لأنفسنا بعاداتنا، لغتنا وتقاليدنا. وبالنسبة إلي أقول لكم: حين سأموت سأحتفظ في عظامي بجنوني للماء وجنوني الأكبر لضوء بلادي. مهْلا، مهْلا! إن الزمن معنا”.

من “شاهدتُ، سمعتُ، قرأتُ” (ص 91):

“لا يوجد النور على سطح الحضارة، بل إنه موجود في عمقها، حيثما وجدنا هناك الماء. ينبغي فقط على المرء أن يحفر”.

من “من كل الآفاق” (ص 9):

“تصعدُ من كل الآفاق نفس الجلبة (الصياح والصخب)… صحيحٌ أنه بالنسبة لكل الكينونات البشرية نفس المشاكل تدوم: الحرية، الاعتقاد، السعادة، معنى الحياة، الأمل. فكل واحد منا – أثناء فترة ما من حياته – يطرح كل هذه المشاكل ويواجهها بالوقائع الحية”.

من “تحقيق في البلد” (ص 15):

“كل شيء إنساني، خاصة الضعف والنذالة”.

بهذه العبارات المضيئة، تبدو الشخصيات الروائية لدى إدريس الشرايبي حاملة لوجهة نظر بعيدا عن أية خطابية فجة أو نبرة تقريرية مُرتبة سلفا. وهذا مصدر شجاعتها، لأنها تجعل من الرواية مشروع حياة عاشتها أو تعجز عن أن تعيشها؛ بيد أنها تتحرك في الزمان والمكان، ترتقي الأيام والليالي والأعوام بعناد، وحرمان، ومهانة، ومَكْر.

3
تحكي رواية “الماضي البسيط (1954)” تعارض مواقف إدريس فردي مع أبيه، وتدعوه الرواية “السيد”. وبالرغم من أن الرواية حاملة ومبطنة بنقد اجتماعي، فإنها تحفل بحب عميق للأب على عكس ما هو سائد من آراء نقدية. في الفصل الخامس من الرواية يصور السارد “السيد” بإيجابياته وسلبياته ضمن هذه الفقرة الموحية والمعبرة:

“أخذت يده وسحقت عليها شفتاي. أحسست به فجأة قريبا مني، شفافا للمكابدة، وهو في خضمها أكثر صدقا، أكثر كمالا، أكثر إنسانية” (ص 224).

كما تعيد رواية “التيوس (1955)” تأمل علاقة الفرد – في المجتمع الغربي وعلى غرار المجتمعات المغاربية – بجملة ممارسات اجتماعية تخص الإقصاء والتهميش والعزلة. إنها رواية بحث عن الوئام بين الأفراد حيثما وجدوا.

وإذا كان الشرايبي في “متتالية منفتحة (1962)” عاد لمواصلة الحوار الذي دشنه من الأب في “الماضي البسيط”، فإنه في روايته اللاحقة “سيأتي صديق لملاقاتكم (1967)” يعيد تأمل إحساس العاشق ويغوص في تفاصيله السيكولوجية والإنسانية.

وتشكل رواية “الحضارة أماه! (1972)” قصة امرأة تبحث عن حريتها وتسعى إلى تجاوز مظاهر التخلف والهيمنة المفروضة، من جز الخروف إلى الاجتماعات السياسية، مرورا بالتحصيل المدرسي، اجتازت بطلة الرواية كل المحن وفرضت ذاتها في الواقع والخيال أيضا.

تجربة حب أخرى قاسية واستثنائية تصفها أحداث رواية “موت في كندا (1971)” بطلاها فنان موسيقي وطبيبة نفسانية؛ من الحب إلى الانفصال العنيف ترصد الرواية أهواء علاقة إنسانية بلغة شفافة ومنسابة.

نفس الأجواء والمشاعر والأحاسيس تعمقها روايات أخر لإدريس الشرايبي كما هو الأمر في “تحقيق في الوطن (1981)”، “أم الربيع (1982)”، “ميلاد في الفجر (1986)”… وينشغل أفق الحكاية في هذه الروايات بتمثل سؤال الهوية بما هو سؤال يسمح بانتقاد واقع متردٍ، لا يستكين لخطاب المهادنة، ويعيد الاعتبار للإنسان بتحريره من الأوهام وأوزار الأيام.

أفق الحكاية في روايات الشرايبي دوما في حالة تماس مع خطاب الهوية. وهذا معناه أن شخصيات رواياته:

– لا تداري وضعها بالتعلل،

– قلبها مفتوح وبدون أسرار،

– شغوفة بالحياة، ولا يسكنها ندمٌ.

أترك تعليقا

أحدث أقدم