تيمة المرأة في الفيلم المغربي ''ذاكرة للنسيان".. ثنائية "المقدس والمدنس"

تيمة المرأة في الفيلم المغربي ''ذاكرة للنسيان'.. ثنائية 'المقدس والمدنس'

يبتدئ الفيلم المغربي ”ذاكرة للنسيان” بلقطة تأسيسية تكشف لنا معالم الفضاء الذي سيحتضن مجريات أحداث الفيلم. في عمق اللقطة تتراءى لنا مجموعة من البيوت البسيطة المتفرقة هنا وهناك، مشكِّلة قرية صغيرة نائية يتوسطها مسجد بصومعة، صمت متواصل يرافق هذه اللقطة دون أصوات ودون موسيقى تصويرية، كل شيء هنا ينبئ بالهدوء والتأمل.

سيارة غريبة تقتحم هذا الصمت، بداخلها رجل وامرأة، حوار مقتضب سندرك من خلاله أن الرجل منتج والمرأة مخرجة سينمائية، لماذا تم اختيار هذا المكان البعيد والمنعزل بالضبط؟ لأن لكل مكان روحا معينة، والمخرجة هنا حتى تعكس لنا روح هذا المكان بتفاصيلها، كما جاء على لسانها، في الطريق تتوقف المخرجة أمام مسجد، تحمل آلة تصوير، تصوب عدستها نحوه، لنجد أنفسنا نحن الجمهور داخل زمن مستقطع من الماضي، فقيه يجلس أمام أطفال يقرؤون القرآن، كل واحد منهم يقف أمامه، يحاول استحضار ما تيسر له منه فيفشل ثم يطرد، ليستفرد في الأخير بطفلة، فزعها ورعبها من أول لحظة يشيران إلى أنه اعتاد التعدي عليها واغتصابها.

بعد أن أغلق الباب عليه وعليها يسود الشاشة ظلام دامس، ظلام يرمز إلى رهبة المكان؛ فيتحول المسجد، الذي عايناه من قبل في اللقطة التأسيسية البعيدة كفضاء للسكينة والأمان والطهارة، إلى فضاء موحش ومفزع. كما يتحول الفقيه، الذي يمثل الوقار والمفروض أنه مستأمن على أطفال القرية، إلى وحش وشيطان يستبيح أعراضهم.

وهنا نجد أنفسنا أمام ثنائية المقدس والمدنس، الطهارة والنجاسة، فالمسجد كبيت من بيوت الله هو فضاء مقدس؛ لكنه قد يتحول إلى مدنّس بفعل فاعل يدّعي الطهرانية، وإمامه وفقيهه الذي من المفروض أنه يتحلى بكل صفات الطهارة يستغل هذا الرداء للقيام بكل الأعمال المحرّمة والنجسة، لا علاقة هنا للدين بالموضوع بل بالطبيعة البشرية الشيطانية التي تتحكم فيها الغرائز والشهوات، والاستسلام إلى بعض المقدّسات والاطمئنان إليها باعتبار أن الباطل لا يأتي من بين يديها ولا من خلفها، قد يأتي بنتائج سلبية وخطرة، وقد تتحول في غفلة منا إلى مدنّس بفعل هذه الطبيعة البشرية، فالإنسان يبقى إنسانا يحمل في جانب منه كل سلبيات الكون مهما ادعى الطهارة والإيمان، وقد يستغل ما أعطاه صفة التقديس لمصالحه الشخصية الضيقة.

المخرج لم يستند على هذه الثنائية للكشف عن جوهر وعمق الفكرة إيديولوجيا أو فكريا بل لرسم صورة بأبعاد اجتماعية مبسطة لوضعية المرأة ومعانتها في المجتمع الذكوري، من الطفولة إلى الكبر مرورا بالمراهقة. والمعروف والمتداول أن مثل هذه المناطق النائية ما زالت تحتكم إلى الأعراف التقليدية المضطهدة للمرأة، بخلاف المدن.

ابتعد المخرج عن الخطاب المباشر في تناوله لهذه الزاوية، واعتمد على اللغة البصرية والرمز لإيصال فكرته؛ فمثلا نجد المرأة التي على وشك الولادة محمولة على نقالة يدوية الصنع من طرف زوجها وبعض شباب القرية، في لقطة لاحقة تنقل لنا الكاميرا زوجها المتوتر ومعه الشباب ينتظرون خارج بيت ”القابلة”، والنقالة في وضعية استعداد، في اللقطة التالية الشباب يحملون النقالة نفسها لكنها فارغة يتقدمون الزوج ومن خلال حركاته وتعابيره ندرك أنه غير راض عن شيء ما، خلفهم تماما تظهر الزوجة وهي تحمل رضيعها وتمشي بتثاقل وبطء وعلى ملامحها مسحات من الكآبة والحزن. من هنا، نفهم أن المولود أنثى وأنهم غير راضين على ذلك، وخصوصا الأب.

تتلاحق الأحداث بهدوء، وهي ليست أحداث بمفهومها الدرامي بقدر ما هي صور من عمق المجتمع القروي تعكس لنا بوضوح وضعية المرأة فيه؛ وهي وضعية حسب الفيلم بها الكثير من المعاناة والمأساة، فتبعيتها للرجل بشكل مطلق، بالإضافة إلى الجهل والفقر، كلها أمور جعلت منها كائنا مهمشا لا شخصية له، فهي الحلقة الأضعف داخل هذا المجتمع..

ولهذا السبب نجدها في بعض المشاهد تلجأ إلى ضريح من الأضرحة وتقف على أعتابه تشكو له همها وتتوسل مساعدته في الحصول على مولود ذكر، فبسبب إنجابها للإناث فقط تهان كرامتها باستمرار من طرف زوجها، تستسلم المرأة لشروط القائم على الضريح باتباع طقوس معينة حتى يتيسر لها ما أرادت، وفي صور متتالية نقلت لنا الكاميرا بلغة بصرية متقنة كل هذه الخطوات.

الفيلم احتفى بهذه الطقوس فنيا بلقطات معبرّة، ولم يحتفِ بها كموروث ثقافي أو شعبي، رسمتها عدسته بأسلوب سريالي يدعو إلى التأمل والتدبر في قدرة العبث الاجتماعي والثقافي على التلاعب بمشاعر المرأة المهددة بمصير مجهول قد يكون كارثيا عليها وعلى بناتها، المرأة هنا كزوجة وأمّ تستسلم للرجل الميت/الضريح عسى أن تحل بركاته عليها، وتخرج من النفق الضيق الذي أدخلها فيه المجتمع الذكوري ومن خلاله زوجها/الرجل، وطفلتها تستسلم لفقيه القرية/الرجل صاغرة كما استسلمت باقي البنات، في النهاية وكما جرى العرف في القرى والبوادي يحاولون تزويجها وهي ما زالت طفلة متعلقة بلعبها، لكنها وفي آخر لحظة تتمرد وتثور وتهرب لتصبح مجرد جزء من فيلم يصوّر لكنها في الحقيقة هي الشاهدة/المخرجة على كل ما حدث واقعيا.

الفيلم لامس لن أقول جوهر القضية، لأن هناك الكثير من الأعمال الفنية المغربية ناقشتها بعمق وشرّحتها؛ لكنه لامسها فنيا من خلال إنجاز الكثير من اللوحات السينمائية رَسمت بألوانها الخافتة ولغتها المتمكنة وسردها السلس ملامح المجتمع الذكوري، فالمرأة هنا مجرد عنصر من بين العديد من العناصر التي شكّلت في عمقها الصورة الأكبر وهي المجتمع ككل.

لا ننسى أن فيلم ”ذاكرة للنسيان” هو فيلم قصير لم يتجاوز 23 دقيقة، ورغم ذلك نجح في بناء عقدة خاصة به معتمدا على التكثيف والإيجاز، وهي تطور شخصية المرأة من بنت مستسلمة خاضعة إلى بنت متمردة ثائرة، ثم إلى امرأة قادرة مستقلة بكيانها وشخصيتها الخاصة، وقد ساعد على ذلك التشخيص الجيد للممثلين الذي أجادوا نقل الانفعالات الداخلية والنفسية للشخصيات بشكل سهّل الوصول إلى رؤية المخرج بشكل سلس.

“ذاكرة للنسيان” ليس أول فيلم للمخرج المغربي الهواري غباري، فقد سبقته أعمال روائية قصيرة أخرى هي (البزطام، تفاحة، بوخنشة، طفل الحب، النشبة)؛ لكن هذا الفيلم بالذات يختزل بعمق فني جمالي متمكن وناضج التيمة التي اعتمد عليها في تجاربه وهي المرأة، وتعدد أعماله في هذا الجنس السينمائي ليس استسهالا منه، فمن تابعها سيجدها ورشة عمل حقيقية لإصدار تجارب متنوعة تحقق إضافة مهمة لهذا المجال ببلادنا.

أترك تعليقا

أحدث أقدم