بين التخييل والتاريخ .. بنكراد يستجلي حقيقة الرواية وحاجة الإنسان للحكاية

بين التخييل والتاريخ .. بنكراد يستجلي حقيقة الرواية وحاجة الإنسان للحكاية

قد تبدو الرّواية في ظاهرها “نافذة على عالم يقول كلّ شيء من خلال أحداثها”، لكنّها بالنسبة لسعيد بنكراد “ليست سوى ما تصوغه اللّغة وتعيد إنتاجه في المحتمل التّخييليّ، لا في ما حدث فعلا”؛ أي إن ما ترويه “ليس “حقيقة” كما توهمنا الكلمات، وإنما هو محاولة لبناء الكثير من “الحقائق” من خلال الحكاية ذاتها”، وجزء من “حقائقها” مستمدّ من “هوى المُتَلفِّظ وانفعالاته.”

جاء هذا في أحدث كتب السيميائي المغربي بنكراد بعنوان “الهوية السردية-المحكي بين التخييل والتاريخ”، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب، ويهتم فيه بـ”الهوية السردية” والشخصيات الروائية في علاقة بـ”أشباح التاريخ”، والسيرة الذاتية بين “الحقائق” و”ممكنات الهوية السردية”، كما يدرس فيه نماذج من “السرد النسائي”، و”الطوفان الرمزي في الرواية العربية”، “والتخييل التاريخي” انطلاقا من أمثلة سردية.

يقول بنكراد إن الإنسان في علاقته بالزّمن يبدو “كائنا مولعا بالبدايات، فهو مُوَجَّه من داخله نحو النّهاية. وذاك ما يدفعه إلى الاحتفال بيوم ميلاده ويوم زواجه، كما يحتفي بانتصاراته وهزائمه وبما خَلَّفه التّاريخ من مآثر يُقاس عليها نُموُّ البشريَّة أو اندحارها”.

ويفسر هذا برغبة في “استعادة ما خَفِيَ عنه وما تجاهله أو ما ضيَّعته صروف الدَّهر في غفلة منه؛ وهو ما يعني أنَّ الحياة لا يمكن أن توجد إلَّا من خلال قدرة الإنسان على التقاط صورها كما تتشكلّ في زمنيّة تعشِّش في المحكيّات وحدها.”

ويضيف: “استنادا إلى هذه الرَّغبة، لن يَكون النَّشاط السّرديُّ عنده سوى محاولة لرسم حدود عالم إنسانيّ مُضاف في التّخييل يتحرَّك على هامش الدَّفق الزّمنيِّ المعتاد. لذلك لا يختلف البحث عن “البدايات” في مجال السّرد التّخييليّ عن الرَّغبة في تَلَمُّس البدايات الأولى للكون إلَّا في الظَّاهر. فبدايات السّرد ليست سوى صورة مُصغَّرة عن البدايات الكبرى في الوجود. ففي هذا وذاك محاولة للانزياح عن خطاطات حياتيّة مُسْبقة مودَعة في الثّقافة واللّغة والقلق الوجوديِّ ذاته، أملاً في العودة إلى أصل أوَّل يتطهَّر داخله الإنسان ويستعيد ذاتَه خاليةً من كلّ “شوائب” التَّمدُّن والتَّحضُّر.”

ويوضح بنكراد أن “الحكايات في تنوّعها واختلافاتها كأنَّها محاولة مُشخَّصة للإجابة عن أسئلة هي ما يحدد في الجوهر طبيعة وجود الإنسان في الأرض، أي وجوده في المعنى: ما يعود إلى الفعل، وما له صلة بالمعيش اليوميّ، وما يُحيط بالكينونة.”

ويسترسل شارحا: “نحن نَتعلّم من نجاح الآخرين ونَتفادى أخطاءهم ونَتوقع ردود أفعال لا نعرف عنها أيّ شيء، ونُصحِّح أخطاءنا في الوقت ذاته. وبالموازاة مع ذلك، نخلق لأنفسنا نماذج للتّماهي أو الاحتذاء، سواء تعلّق الأمر بالمواقف الكبيرة كما هي الحياة الفكريّة أو الفنيّة التي تُقدمها سيَر العظماء ومذكراتهم، أو ما يُقدمه الإشهار حين يَضع الفنانين وأشباههم مثالا لكلّ شيء”.

يحدث هذا لأن “وجودنا في السّرد كان دائما أقوى من وجودنا في حقيقة التّاريخ”، وما تَبنيه الحكاية “لا يمكن، إلا في النّادر من الحالات، إلغاؤه أو التّحكم في امتداداته. كلّ شيء يتم كما لو أنَّ حياتَنا مودعة في القصص، قبل أن تتجسّد في الحدث اليوميّ، لذلك قد تَكون الحكاية هي الوسيلة المثلى، إن لم تكن الوحيدة، في تَسريب التجربة الفرديّة إلى ما راكمته الجماعة واحتفت به أو ما قاومته ووقفت في وجهه.”

الحكاية إذن “صيغة استعاريَّة دالَّة على شكل حضورنا في الحياة ذاتها”، و”قد تكون قصة الخلْق التي تداولتها الأساطير والأديان هي أصل كلّ القصص، أو هي المحكيّ الأصليّ الذي ستَتناسل منه كلّ حكايات الكون، كبيرها وصغيرها؛ فنحن مُنْتجات سرديّة، بالسّرد نتعلّم كيف ننتمي إلى محيطنا الثّقافي وكيف نستعيد خبرات السابقين، وبه نُضلّل ونَنشر الدّجل والجهل والأباطيل، ومنه تُسْتَمد كلّ الشّرعيات في الدّين والانتماءات القبَليّة والعرقيّة والطائفيّة. وذاك أيضا ديْدن المؤسّسات الاجتماعيّة والأنظمة السياسيّة والأنساق المعرفيّة الكبرى.”

العالم الموصوف في السّرد، وفق أحدث كتب بنكراد، جزء من “تصور شعبيّ للحياة يُسنِده فكر تناظريّ قائم على التّشابه بين كائنات وأشياء وظواهر من طبائع مختلفة”، وهذه “هي القوّة الضاربة للسّرد، وذاك مصدر طاقات التأثير داخله. فهو ليس حِجاجا يعتمد المنطق في بناء حقائقه، إنه يستند إلى المُحتمل الذي يبني عوالمه خارج سلطة الزمنيّة الواقعيّة، لذلك لا يُبَشر بحقيقة قابلة للتّصديق، بل يَبني عالما هو مرجع ذاته ومرجع حقائقه”؛ و”لا صلة للسّرد بالواقع، إنه يكتفي بمنح معنى لأشيائه”.

وما يستهوي الإنسان بالنسبة للسيميائي هو “هذا المعنى بالذّات، لأنّه لا يُقيِّدنا بحقائق لا يُنكرها النّاس، بل يُغرينا بممكنات عيش تعشّش في الافتراض وحده”، ويشخص “خبرة تتحقّق ضمن تفاصيل الفرجة الحياتيّة وفق إكراهات زمنيّة تُعاش في اليوميّ بَعيدا عن الصيّاغة التجريديّة لحدودها”، ليؤثّث السرد زمنيا “عالما لا يُمكن أن يوجد إلا من خلال قصصه ورواياته.”

وكما أن الإنسان “منتج لغوي” أي إن “ذاكرته وذاكرة الكون الذي يَتحرك داخله من طبيعة لسانيّة”، فإن أحاسيسَه “لا يمكن الكشف عنها أيضا إلاّ مجسّدة في محكيّات صغيرة”، ولذلك نعيش “بقصصنا ولكنّ قصصنا لا يمكن أن تَستقيم إلا من خلال استِحضار قصص الآخرين”؛ فـ”الكراهيّة والعشق والحقد ليست انفعالات إلا في الظاهر، أمّا في مضمونها الخفيّ فهي قِصّة كلّ الكارهين والعاشقين والحاقدين”، ومن خلال الحكاية “نُراكم الخبرات المعرفيّة ونَتعرف على رَغباتنا أيضا، ونَكشف عما استبْطنه الدّاخل المظلم في غفلة من الرقابة العقليّة.”

أترك تعليقا

أحدث أقدم